تميز السلف رضوان الله عليهم بقوة الإيمان وصدق اليقين وخلوص البواطن من الشك والريبة، فأثمر ذلك أعمالا خالدة وإنتصارات مجيدة، وتمكنوا في خلال سنوات قليلة القضاء على أكبر دولتين في زمانهما، ونشروا نور الإسلام في ربوعهما، وتتابع الناس، يدخلون في دين الله أفواجا، وصبغهم الإسلام بعزته فأبوا أن يخضعوا إلا لله، وإستقر في نفوسهم أن الله سبحانه وتعالى قد إختارهم لإنقاذ هذه الدنيا بأسرها من ظلمات الجهل والخرافة، وندبهم لتحرير الناس من قيود العبودية لغير الله.
خرج رستم بجيش هائل قوامه مائة ألف أو يزيدون من ساباط، فلما مر على كوثي -قرية بين المدائن وبابل- لقيه رجل من العرب فقال له رستم: ما جاء بكم، وماذا تطلبون منا؟ قال: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا.
قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك؟ قال: من قتل منا دخل الجنة، ومن بقي أنجزه الله وعده، فنحن على يقين.
قال رستم: وقد وضعنا إذاً في أيديكم؟ قال العربي: أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجادل الإنس وإنما تجادل القدر، فغضب منه رستم وقتله.
فلما مر بجيشه على البرس -قرية بين الحلة والكوفة- نهبها جنوده وشربوا الخمور ووقعوا على النساء فشكا أهل البرس إلى رستم، فقال لقومه: والله لقد صدق العربي والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء أحسن سيرة منكم.
إن الثقة موعود الله بالنصر والظفر، كانت الروح الغالبة في المجتمع المسلم برجاله ونسائه وشيوخه وشبابه، فهذا رجل من أغمار الناس، لا يُعرف له اسم يقف أمام رستم قائد الفرس في ثقة منقطعة النظير ولا يبالي بما يمكن أن يصيبه على إثر ذلك، بل ويشخص القائد العظيم داءاً من أدواء الأمم التي تؤدي إلى سقوطها وإنهيارها -أعمالكم وضعتكم فأسلمكم الله بها.
إن النصر على الأعداء يبدأ من داخل النفس وكذلك الهزيمة فكم من جيوش قليلة العدد والعدة إنتصرت على جيوش ضخمة العدد والعدة، ومن يقرأ تاريخنا الإسلامي يجد أن ما من معركة خاضها المسلمون إلا وكانوا أقل من أعدائهم عدداً وعدة ومع ذلك فقد حققوا إنتصارات هائلة إكتسحوا بها العالم، ولكن الشيء الذي تميزوا به عن أعدائهم هو ثقتهم في الله وفي موعود الله، وإيمانهم بما يقاتلون من أجله وأنهم إنما يقاتلون إما دفاعاً عن بلادهم وديارهم من معتد غاصب أو أنهم يفتحون البلاد لنشر دين الله عز وجل وتبليغ دين الحق إلى الناس بناءً على تكليف الله لهم بذلك، ولم يهزم المسلمون الأوائل في معركة من المعارك إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان أو ضعف في ثقتهم ويقينهم في النصر وإن ظهر ما يدل على غير ذلك وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة.
ومن أعظم ما أصيب به المسلمون في هذا العصر هو سيطرة روح الإنهزام عليهم، أمام أعدائهم، وضعف روح المقاومة، والعجز حتى عن مجرد التفكير في ذلك، حتى بلغت أمتنا مبلغاً خطيراً من الإنحطاط والتردي والتخلف، وقد حرص أعداؤنا على تكريس هذا الوضع بالتعاون مع عملائهم من القادة والزعماء والعلمانيين من خلال التلاعب بالمناهج الدراسية وحذف كل ما يمكن أن يثير الحمية ويبعث روح المقاومة، ومن خلال الغزو الإعلامي والثقافي الذي يعمل ليل نهار على تقويض كل القيم والأخلاق الإسلامية ويمجد في حضارة المتع وثقافة الإنحلال.
إن الهزيمة النفسية هي أخطر أنواع الهزائم على الأخلاق، وكل ما عداها من هزائم منبثقة منها.
إن الهزيمة النفسية هي التي تجعل الكثير من أبناء المسلمين يقلدون الغرب في قيمه وأخلاقه الهابطة، ويولون ظهورهم لقيم وأخلاق الإسلام، ويعتقدون أن التمسك بالإسلام هو سبب تخلف العالم الإسلامي وتردي الأوضاع فيه.
والهزيمة النفسية هي التي جعلت كثيراً من أبناء هذه الأمة لا يحسنون النطق بلغة القرآن، ويتفاخرون بقدرتهم على التحدث باللغات الأجنبية المختلفة.
والهزيمة النفسية هي التي أماتت في الأمة الإسلامية روح المقاومة والمغالبة وجعلتنا نسلم بلادنا وخيراتنا لأعدائنا ونعيش على ما يقدمونه لنا من فتات.
والهزيمة النفسية هي التي جعلت من أدبائنا ومفكرينا أبواقاً لأعداء هذه الأمة ورحم اللهُ ابنَ خلدون الذي شخص الداء بقوله: إن المغلوب أبداً مولع بتقليد الغالب.
والهزيمة النفسية هي التي تجعل كثيراً من علماء الدين بحسن نية يبررون كثيراً من أحكام الإسلام ويحاولون مطابقتها لواقع الناس المخالف أصلاً لشرع الله ومنهجه.
والهزيمة النفسية هي التي جعلت المدافعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يختص بالرسوم الدنمركية يتسترون خلف رفض إهانة الرموز الدينية.
ويالها من معرة ومذلة حين لا يكون لهذه الملايين من المسلمين موقف حاسم لنصرة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام.
إن الهزيمة النفسية التي تغلغلت وتجذرت في نفوس وعقول الكثير من أبناء هذه الأمة على مدار عقود، تحتاج إلى أن تتضافر جهود أبناء هذه الأمة من العلماء والدعاة والمربين من أجل القضاء عليها وتخليص أمتنا من آثارها.
إن المخلصين من علماء هذه الأمة لابد أن يقوموا بواجبهم في التوعية والتثقيف وبيان أمجاد هذه الأمة وإمكانية النهوض مرة أخرى وأن ما نحن فيه سحابة صيف سرعان ما تزول، وإن المربين والمعلمين في المدارس والمؤسسات التربوية المختلفة، عليهم أن يبثوا روح الأمل والرغبة في الخروج من حالة التردي والإنحطاط التي يعيشها المسلمون وكذلك تحتاج هذه النهضة إلى جهود رجال الإعلام المقروء والمسموع والمرئي من أجل تحرير العقل المسلم من قيود اليأس وضغط الواقع المرير وعندما يحدث ذلك ويؤتي ثماره نستطيع أن تردد ما قاله العربي الأول لرستم: فإنك لست تجادل الإنس وإنما تجادل القدر.
الكاتب: جهلان إسماعيل.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.